العون الإنساني في السودان- شريان الحياة.. أجندات خفية وسيادة مُنتهكة.

المؤلف: عطا المنان بخيت10.05.2025
العون الإنساني في السودان- شريان الحياة.. أجندات خفية وسيادة مُنتهكة.

السودان، ذلك البلد الذي أنهكته النكبات والكوارث، سواء كانت ناجمة عن قسوة الطبيعة أو عن فعل الإنسان، تتراكم فيه الأسباب الموجبة للأزمات الإنسانية وتتعقد. فمن موقعه الجغرافي الحساس في قلب منطقة الساحل الأفريقي الشاسعة، ذلك الحزام الممتد من أريتريا حتى السنغال، والذي يشهد منذ سبعينيات القرن الماضي وطأة الجفاف المدمر ونقصًا حادًا في الغذاء، ما عُرف بالجفاف المهلك، إلى ثرواته الطائلة التي لم تُستغل بعد، والتي تغري بتدخلات أجنبية طمعًا في خيراته، وصولًا إلى السياسات المتعاقبة للحكومات التي لم تفلح في تحقيق الأمن والاستقرار المنشودين، ولا في تسخير مقدرات البلاد الهائلة لرفاهية مواطنيها.

هكذا، فتحت الأزمات الإنسانية المتلاحقة الباب على مصراعيه أمام تدفق المنظمات الإنسانية الدولية إلى السودان، تحت ستار تقديم العون والمساعدة. ولكن مع مرور الوقت، اتسع نطاق تدخل هذه المنظمات وامتد ليشمل أرجاء البلاد، مخلفةً وراءها آثارًا سلبية جمة، ومتجاوزةً بشكل صارخ التفويض الممنوح لها، بل إنها ضربت عرض الحائط بأخلاقيات وقيم العمل الإنساني الدولي المتعارف عليها.

تبرز عملية "شريان الحياة" كأبرز مثال على هذا التداخل الخطير بين العون الإنساني والسياسة، وعلى استباحة المنظمات الإنسانية، بما فيها تلك التابعة للأمم المتحدة، لسيادة السودان، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في إطالة أمد الصراعات والحروب في مختلف الجبهات.

إن دراسة متأنية لتجربة "شريان الحياة" باتت ضرورة ملحة لفهم العلاقة المعقدة بين العمل الإنساني والسياسة، وكيف استغلت المنظمات الإنسانية الدولية تواجدها في السودان لخدمة أجندات سياسية بحتة، لا تمت بصلة إلى الأهداف الإنسانية المعلنة التي منحت هذه المنظمات التفويض للعمل بموجبها.

ومن خلال تحليل هذه العملية الإنسانية المعقدة، يمكننا أن ندرك بشكل أعمق الأسباب الكامنة وراء الخلاف المتفاقم بين السودان والمجتمع الدولي فيما يتعلق بتقديم المساعدات الإنسانية للتخفيف من وطأة الأزمة الراهنة التي تعصف بالبلاد، سواء في أروقة الأمم المتحدة بجنيف، أو في التعامل مع المنظمات الإنسانية التابعة لها.

عملية "شريان الحياة"

تُعد عملية "شريان الحياة" من أضخم وأطول عمليات الإغاثة الإنسانية التي قامت بها الأمم المتحدة على مستوى العالم قاطبةً، حيث استمرت فعليًا من عام 1989 حتى عام 2010. وكان الهدف المعلن للعملية هو إيصال الغذاء والمساعدات الإنسانية المتنوعة إلى المناطق المتضررة من النزاعات في جنوب السودان، بالإضافة إلى المناطق الأخرى التي عانت من ويلات الحرب أو الجفاف في أنحاء متفرقة من السودان.

ارتكزت العملية على مجموعة من الترتيبات الإدارية والسياسية والتنظيمية التي حظيت بموافقة الحكومة السودانية في نهاية الحقبة الديمقراطية الثالثة. وتم تنفيذ العملية تحت إشراف الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية، وصدرت بشأنها العديد من القرارات من قبل المنظمة الدولية.

وعلى الرغم من أن العملية تمت تحت مظلة الأمم المتحدة، إلا أن المؤشرات القوية تؤكد أنها كانت في الأساس مبادرة أمريكية خالصة، حيث مارست الولايات المتحدة وحلفاؤها ضغوطًا هائلة على الحكومة السودانية من أجل إجبارها على القبول بتنفيذ العملية على أراضيها.

وتولت الحكومة الأمريكية الإشراف المباشر على مختلف مراحل العملية، وكانت هي الجهة المانحة الرئيسية لها. وقد نجحت الضغوط الدبلوماسية الأمريكية في إرغام الحكومة السودانية على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع حركة التمرد في جنوب السودان، والتوقيع سويًا على الوثيقة الأساسية للعملية في شهر مارس من عام 1989.

وهكذا، شكلت عملية "شريان الحياة" سابقة دولية فريدة من نوعها، إذ كانت المرة الأولى في تاريخ الدولة الوطنية الحديثة التي تسمح فيها دولة ذات سيادة بوصول المساعدات الإنسانية مباشرة إلى المتضررين في مناطق من ترابها الوطني تقع تحت سيطرة حركات مسلحة خارجة عن سلطة الدولة. وعلى الرغم من الهدف الإنساني النبيل للعملية، إلا أنها شهدت تجاوزات خطيرة أضرت بسيادة الدولة السودانية، وهددت وحدتها الوطنية.

تمثل التجاوز الأول في استغلال المنظمات الإنسانية للوثيقة التي وقع عليها الطرفان كذريعة للاعتراف بفصائل التمرد كجهات سياسية تتحكم في المناطق التي تسيطر عليها وتدير شؤون الحياة فيها. وأصبحت هذه المنظمات تتعامل مباشرة مع هذه الجهات دون الحاجة إلى الحصول على إذن أو تنسيق مع الحكومة المركزية، وهو ما يعني أن المنظمات باتت تعامل حركات التمرد على قدم المساواة مع الحكومة السودانية.

وتطور الأمر إلى أبعد من ذلك، حيث قامت حركة التمرد بتوقيع اتفاقية ثنائية مع عملية "شريان الحياة" دون مشاركة الحكومة السودانية في عام 1995، وكانت تلك سابقة أخرى تحدث للمرة الأولى، أن توقع الأمم المتحدة اتفاقية ثنائية مع حركة متمردة دون إشراك الحكومة المركزية في ذلك. وبموجب هذه الاتفاقية، أصبحت حركة التمرد في جنوب السودان تدير حركة العون الإنساني سواء من العاصمة الكينية نيروبي أو من مواقع داخل جنوب السودان، وذلك بالتنسيق المباشر مع الأمم المتحدة دون الحصول على إذن أو تنسيق مع الحكومة السودانية.

وتأكيدًا لسيطرة حركة التمرد على سير العملية الإنسانية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، فرضت الحركة قيودًا مشددة على المنظمات الإنسانية الدولية، بدأت بإلزامها بالحصول على تصاريح وأذونات من حركة التمرد كشرط أساسي للعمل في المناطق التي تسيطر عليها الحركة، وانتهى الأمر بإلزام المنظمات بتوقيع مذكرات تفاهم منفصلة مع حركة التمرد تمامًا، على غرار المذكرات التي وقعتها المنظمات مع حكومة السودان، وهو ما يعني اعتراف هذه المنظمات بحركة التمرد كجهة سياسية حاكمة. وقامت الحركة بطرد جميع المنظمات التي رفضت التوقيع على مذكرة تفاهم معها.

وهكذا، انفردت حركة التمرد بإدارة شؤون العون الإنساني في المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وسخرت ذلك لخدمة أجندتها السياسية والعسكرية الضيقة، وذلك عن طريق توجيه الإغاثة مباشرة لتزويد قواتها المقاتلة بالمؤن والعتاد على امتداد جنوب السودان، واستغلال طائرات الإغاثة لنقل الجنود وإسعاف الجرحى إلى نيروبي، ونقل الأسلحة والذخائر إلى قواتها المتمركزة في الحاميات النائية في الجنوب.

وقد شارك في هذه الممارسات المشينة عدد من موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية الغربية، بما في ذلك منظمة الصليب الأحمر الدولي، التي تعتبر واحدة من أكثر المنظمات التزامًا بمبادئ ومواثيق العمل الإنساني والقانون الدولي الإنساني.

وعلى الرغم من أن الحكومة السودانية قد ألقت القبض على عدد من طائرات وموظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية متلبسين بجريمة نقل الذخائر والأسلحة لحركة التمرد؛ بهدف إشعال نار الحرب، ونقل قادة الحركة ومقاتليها على متن طائرات الإغاثة، إلا أن هذا العمل الشائن لم يلق الاستنكار اللازم من جانب الدول الكبرى ومنظماتها.

وبالمقابل، استمرت قيادة عملية "شريان الحياة" في انتهاك سيادة السودان، والتحريض على الحكومة المركزية، والتغاضي عن تجاوزات ومخالفات فصائل التمرد، وتجاوزها المستمر للقواعد التنظيمية والإدارية التي قامت عليها عملية "شريان الحياة"، وهو ما يعني تقديم دعم مباشر أو غير مباشر لعملية توظيف العون الإنساني لدعم حركة التمرد في جنوب السودان.

دعم الحرب في دارفور

إن تعامل المنظمات الإنسانية المباشر مع حركة التمرد في الجنوب دفعها إلى مقاطعة الحكومة المركزية بشكل كامل، والانسياق وراء برامج وتوجهات حركة التمرد، إلى درجة أن هذه المنظمات تبنت أطروحات الحركة وخطابها السياسي.

وأصدر تحالف المنظمات العاملة في جنوب السودان، والذي يضم منظمات دولية مرموقة، مثل: أوكسفام ومنظمة حماية الطفولة، بيانًا ناشد فيه المجتمع الدولي بضرورة فرض السلام بالقوة في السودان، باعتباره الوسيلة الوحيدة لإنهاء حالة الطوارئ الإنسانية المعقدة التي تشهدها البلاد.

وتصاعد الطابع السياسي للعملية، حيث بدأ المسؤولون في عملية "شريان الحياة" في استخدام الخطاب السياسي لحركة التمرد الذي ينادي بحماية حقوق المهمشين اقتصاديًا وسياسيًا في شمال السودان، والمطالبة برفع الظلم الواقع عليهم، في تجاوز فاضح لدورهم الإنساني الذي حددته الوثيقة الأساسية الموقعة مع حكومة السودان، وفي تجاوز سافر لمبادئ العمل الإنساني القائمة على الحياد والنزاهة.

وفي خضم هذا المشهد الذي تنمرت فيه منظمات العون الإنساني الدولية، وخرجت عن طاعة الحكومة السودانية وعن رقابة الأمم المتحدة، اندلعت أزمة إقليم دارفور في العام 2003، فقفزت منظمات المجتمع المدني الغربية عامة، والمنظمات اليهودية الأمريكية خاصة، إلى قلب الأحداث في دارفور، وقادت حملة تشويه وتحريض واسعة النطاق ضد السودان بشكل لم يسبق له مثيل.

وقاد هذه الحملة الشرسة تحالف "أنقذوا دارفور" في أمريكا، الذي ضم عددًا كبيرًا من المنظمات، معظمها يهودية ودينية مسيحية، ولها مواقف مسبقة معادية لحكومة السودان. واستغل تحالف "أنقذوا دارفور" حالة الفوضى التي خلقتها المنظمات الإنسانية العاملة في عملية "شريان الحياة"، ولم يوقع أي اتفاق مع حكومة السودان، ولم يطلب إذنها للعمل في دارفور من الأساس.

ودشن تحالف "أنقذوا دارفور" مرحلة جديدة وغريبة في عمل المنظمات، وهي التعامل مع المانح والمستفيد مباشرة دون الحاجة إلى الدولة، مما يؤكد توجه التحالف لتقويض سيادة الدولة السودانية بهدف توفير الدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي للحركات المسلحة في دارفور.

علاوة على ذلك، لم يلتزم التحالف بمبادئ العمل الإنساني الدولي المعروفة، وإنما تحول إلى تجمع سياسي بامتياز يعمل على التحريض ضد الحكومة السودانية وتشويه صورة السودان لدى الرأي العام الأمريكي والعالمي.

وانتهجت المنظمات اليهودية الأمريكية التي قادت تحالف "أنقذوا دارفور" سياسات واستراتيجيات تهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع في السودان، وإعادة صياغة الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد تحت ستار العمل الإنساني.

وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، استخدمت المساعدات الإنسانية كأداة لفرض نفوذها السياسي وبناء تحالفات خبيثة تخدم مصالح الدول المانحة. ومن جانب آخر، نجحت المنظمات في إحداث تغييرات سلبية عميقة في المجتمع، حيث تحول إنسان دارفور من شخص منتج وعامل مجتهد إلى متلقٍّ سلبي للدعم، عاطل عن العمل، وعاجز عن الإسهام في تنمية مجتمعه.

وفي الختام، فقد تحولت عملية "شريان الحياة" من مبادرة إنسانية نبيلة إلى عملية سياسية ممتدة الأثر، بدءًا من التفاوض بشأن الممرات الآمنة، مرورًا بالحوار حول وقف العمليات العدائية، وانتهاءً بمفاوضات السلام السودانية، التي كانت المنظمات الإنسانية عنصرًا فاعلًا ورئيسيًا فيها.

لقد نُشرت العديد من الكتابات والتحليلات حول عملية "شريان الحياة" وتداعياتها على منظومة العمل الإنساني الدولية. ومن أهم ما كُتب عنها باللغة العربية كتاب الباحث السوداني المتميز محمد الفاتح مجذوب بعنوان: "تقاطع السياسة والعون الإنساني في السودان، عملية شريان الحياة نموذجًا"، الذي قام بنشره مركز الجزيرة للدراسات.

إن استيعاب وفهم هذه التجربة أمر بالغ الأهمية في هذا الوقت الحرج، حيث يواجه السودان الآن أزمة إنسانية خطيرة تستدعي بالضرورة دعم المجتمع الدولي ومنظماته الإنسانية، على الرغم من المساوئ الجمة التي أشرنا إلى بعضها.

ومع ذلك، فإن حاجة السودان الماسة للدعم الإنساني الدولي لا تبرر بأي حال من الأحوال استغلال العون الإنساني لفرض الأجندات السياسية للدول المانحة تحت أي مبرر أو ذريعة كانت.

ولا مناص من أن يتعامل السودان، ولو على مضض، مع المنظمات الإنسانية الدولية، شريطة التزامها التام بمبادئ العمل الإنساني الدولي ونظمه. وكما قال الشاعر الحكيم قديمًا: "ومن نكد الدنيا على الحُرّ… أن يرى عدوًا له ما من صداقته بدّ".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة